لسلام عليكم و رحمة الله
أحببت أن أشارككم بأجمل ما قرأت من الروايات مما يعني أنها منقولة و هي للكاتبة: My faith
وهل نسيته ؟
قلت له : لو كنت نصيبي مؤكد سيأتي اليوم الذي تعود لي فيه .
وقال لي : يستحسن أن تنسيني .
هكذا افترقنا .. بأمل مني.. وكبرياء منه ..
وكانت تلك الكلمات التي أغلقت أبواب حبنا ..
جرحت ؟؟ .. مؤكد جرحت .. ولذلك طلقت ما يسمى بالحب .. ونزعت من قلبي نبضاته حتى لا يخفق له ولا لغيره .. ليس وفاء مني لذكرى حبي الأول .. ولكن حتى أجنب قلبي الغض وجيعة أخرى .. والاهم من ذلك حتى ارضي ربي .. ولا أخون ثقة والدي .. هكذا أنا فتاه بسيطة لا زالت تتمسك بالتقاليد القديمة .. والتي لم يستطع فهمها يوما ..
نعم أحببته .. ولكنه كان يحب العجينة التي تشكلها يداه مثلما يهوى .. قد أكون اظلمه بقولي هذا .. ولكن هكذا كانت خلافاتنا .. صدام بين شبابه المتحرر .. وأفكاري المتحفظة ..
أنا لم ابكي عليه أبدا .. ولكني بكيت ذلك الزمن الجميل الذي عشناه معا منذ أن احتضنتنا نسمات الحياة الأولى .. خلقت لأجده أمامي .. وكبرت بجانبه وبصحبته .. حتى كبر الحب بيننا ..
كان يقول لي إن الحب الأول لا يستمر أبدا .. وإننا معا سنثبت العكس .. توهمت أنني اعرفه حق المعرفة .. ولكنني اكتشفت أن معرفتنا للناس لا تقاس بالسنين ..
لم يخدعني أبدا .. ولكن غروره وثقته بنفسه لم تدعه يراني مثلما أكون حقا .. ومن جهتي كنت أتوهم فيه رؤية صوره لفارس الأحلام الذي كنت أتمناه ..
لقد أحبني .. ولكن بطريقته الصبيانية .. وبالرغم من كبرياءه إلا أن عيناه تفضحان حب لا يزال يكتمه لي .. ربما يكون الفراق غيره .. أو جعله يدرك جوانب في شخصيتي كان يجهلها .. وربما هذا ما صوره لي الحنين ..
لذلك أتساءل .. هل نسيته أنا ؟!.
مؤكد لا .. فهو احد أولاد عمي الذي خلق الله حبهما في قلبي .. ولن اقدر أبدا على نسيانه .. أو محو ذكرياتي عنه .. ولكن السؤال الأهم .. هل كنت أحبه ؟. لا ادري .. فأيامي لم تتوقف عنده .. ولكن كلما ابتعدت عنه أجدني مشتاقة إليه .. وهذا ليس بغريب ولكن الأغرب إنني عندما ألقاه لا أحس بلهفتي عليه .. اهو كبريائي أنا أيضا أم أنني لم أكن أحبه منذ البداية .. وكنت مخطئه في تفسير مشاعري اتجاهه .. واشتياقي ما هو إلا مجرد حنين لصداقتنا وللحب الأخوي بيننا .. ربما .. ولكن ما أنا متأكدة منه .. هو أنني لم أنساه أبدا فهو باقي بداخلي .. لا استطيع أن اعرف حقيقة مكانته في قلبي .. ولكن ما يهمني الآن هو انه موجود فيه .. وأنني لا أزال قادرة على محبه كل من حولي ..
-------------
أغلقت نور الكراسة التي خطت عليها تلك المشاعر المحتشدة بداخلها .. والتي كانت تلح عليها منذ زمن لكي تترجم بالكلمات ..
أخذت بعد ذلك نفسا عميقا ثم أخرجته ببطء وهي تحمله كل ذلك الألم الذي يغزوها .. وحرمها نومها في هذه الساعة المتأخرة من الليل ..
ابتسمت بسخرية على نفسها .. وهي تنظر إلى الساعة وتعيد كراستها الجامعية إلى مكانها ..
لقد كانت اقرب منقذ لها .. لتفرج على سطورها عن أحاسيسها المضطربة .. والتي عانت مده طويلة من الأسر بداخلها ..
ما بالي ؟ .. هكذا حدثت نفسها باستغراب .. فهي لم تكن أبدا في مثل هذا الضعف .. إضافة إلا أن انفصالها عنه مر عليه ما يقارب السنتين والنصف ..
حاولت أن تغمض عينيها .. وتطرد كل الأفكار عنها .. فغدا لديها كليه ويجب أن تستيقظ باكرا .. كما أنها لا تجد مبررا لحالتها هذه .. خصوصا أنها هي من كانت صاحبه قرار الانفصال ..
(( الله لا إله إلا هو الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الجبار ))
بدأت تردد دعاء النوم .. والذي كان يساعدها كثيرا في تلك الليالي القلائل التي تحس فيها بالأرق .. وما هي إلا ثواني حتى غضت في نوم عميق خالي من الأحلام .. لشده إرهاقها ..
في الصباح لم يفلح المنبه في إيقاظها .. ولكنها استيقظت على صوت أمها الذي يعلو من الغرفة المجاورة بحنق :
- استيقظ يا نبيل .. هيا انهض يا رجل ..
رد عليها صوت ذكوري خشن .. وكأن الرصاص ينطلق من فمه وليس الكلمات :
- اتركيني يا حياه .. أيجب عليك أن تزعجينني يوميا ..
قاطعته بحده :
- نعم .. لأنك في آخر الشهر تتذمر من راتبك الضئيل الذي بترته استقطاعات غيابك عن العمل ..
- ليس لك شان براتبي الضئيل ..
- ومن قال أنني بحاجته .. ولكنك تظل تضايقني طيلة الشهر كي أعطيك مالا ..
وضعت نور الوسادة فوق رأسها وهي تزفر بضيق من هذا السيناريو الممل الذي تؤديه والدتها وزوجها كل يوم .. حتى صارت تحفظه عن ظهر قلب ..
ما هي إلا ثواني حتى انتبهت نور إلى الساعة .. واكتشفت أن وقت المحاضرة قد بدأ ..
قفزت بسرعة من على السرير .. وهي تصيح مردده :
- لقد تأخرت .. لقد تأخرت ..
ومن اللحظة التي وضعت فيها قدمها على الأرض بدأت بتحضير نفسها للذهاب إلى الكلية .. أخذت حمام سريع .. ونظفت أسنانها .. ثم عادت إلى حجرتها .. وكانت تقوم بعملين في نفس الوقت ترتدي ملابسها .. وتحظر حقيبتها .. كان منظرها مضحكا جدا .. ولكنها كانت بارعة في ذلك ..
خصوصا وهي تحضر نفسها على وقع تلك السيمفونية الحادة التي مازالت مستمرة من الغرفة المجاورة .. والتي تصل أدنيها وكأنه لحن تحفيزي شُغِل ليجاري خطواتها السريعة ..
خرجت من الغرفة بعد أن وضعت العباءة والحجاب عليها .. فارتطمت بوالدتها التي كانت قد استسلمت كعادتها .. قالت نور بعجله :
- أسفه يا أمي .
ثم أردفت وهي تقبل وجنه والدتها :
- صباح الخير .
لم تنتظر نور الإجابة على تحيتها وكانت تسابق الدرج وهي تسرع بالخروج .. قالت الأم وهي تتبعها موبخه :
- نور .. ألن تتناولي إفطارك يا ابنتي ؟.
أجابتها وهي تشوح بيدها بعد أن أتمت إغلاق أزرار عباءتها :
- سأتناوله في الكلية يا أمي ..
وما هي إلا ثواني حتى صارت تسير في الشارع الرئيسي لمدينتها الجميلة المعلا .. والكائنة في بلدها الحبيب اليمن ..
نظرت إلى الساعة في يدها .. وهي تبتسم بفخر .. فلقد استغرقت عشر دقائق فقط منذ أن استيقظت .. إنها تحطم بذلك أرقامها القياسية ..
إن كليه الهندسة لم تكن تبعد كثيرا عن بيتها .. ولكنها كانت تعلم أنها تأخرت على المحاضرة الأولى خمس دقائق .. وان الدكتور مؤكد لن يسمح لها بالدخول .. ولكن رغم ذلك استمرت بسيرها الذي يميل إلى السرعة .. لم تكن تسير على ذلك النحو بسبب تأخرها ولكنه ما اعتادت عليه عندما تكون لوحدها ..
كانت نور على قدر متواضع من الجمال .. ذلك الجمال البريء الذي يشعرك بالانجذاب نحوه .. كانت ملامحها لطيفه .. عينان سوداوان واسعتان .. تغطيهما مجموعه كثيفة من الرموش التي كانت ترسم ظلالا على خدودها فتزيدها جمالا .. كان انفها يرتسم على وجهها وكأنه حد السيف .. من تحته تسكنان شفتاها المكتنزتين اكتنازه خفيفة .. وكان لون بشرتها اسمر فاتح بل قريب إلى البياض .. لم تكن طويلة كثيرا .. ولكنها كانت تميل إلى النحافة ..
كانت كاشفه الوجه .. فهي لم تشعر يوما بأنها فاتنة وتحتاج إلى تغطيه وجهها .. إضافة إلى قناعات أبيها الصحفي المشهور حسام عبد الرحمن .. رحمه الله .. والذي كان يؤمن بحريتها وحقها في اتخاذ قراراتها .. وكان هو السبب في وثوقها العالي بنفسها .. وبذلك النجاح الذي حققته في حياتها الدراسية .. وأيضا كان له الفضل في تنميه كل مواهبها التي تمتلكها .. من رسم للإعمال اليدوية .. وبالطبع أسلوب الكتابة المرهف الذي ورثته عنه ..
بدأت نور تشرد عندما غزت أفكارها ذكرى والدها الحبيب الراحل منذ ما يقارب الخمس سنوات .. لم تكن علاقتها به تشبه علاقة أي بنت عربيه باباها .. لقد أنشأها دون أن يشعرها يوما بالنقص لكونها فتاه .. بل كان يسعى دائما لأن يجعلها تدرك أنها تصبح مميزه يوما عن يوم بأخلاقها ومحبه الناس لها .. فأضحت بالنسبة له أفضل من مائه ولد .. بل هي ابنته الوحيدة والمدللة .. و بالمقابل كانت نور تحبه كثيرا .. وكانت تنشد فخره بها دائما .. ولا تخفي عنه شيء من أمور حياتها .. فهي تسير على مبدأ أنها إذا لم تستطع البوح له بكل ما يحدث معها .. إذا فهي قد قامت بعمل خاطئ استحق الكتمان ..
إن أباها لم يكن الشخص الوحيد في حياتها والذي ساهم بخلق كيانها هذا .. لقد كان هنالك أيضا ابن عمها الذي يكبرها بثمانية سنين ويبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاما .. والذي كان يحمل نفس اسم أباها .. إضافة إلى انه يتحلى بالكثير من صفاته المحببة وأخلاقه الرفيعة .. إن حسام كان دائما بالنسبة لها الأخ الأكبر .. والصدر الحنون الذي يحتوي جميع مشاكلها الصبيانية .. من مشاجرات بين الصديقات .. إلى حدث انفصالها عن أخاه .. فهي لم تحب سامح إلا بعد أن توفى والدها .. فأصبح حسام يلعب دور الأب أيضا .. وهي لن تستطيع تخيل حياتها بدون دفئ أبيها لولا وجود حسام فيها ..
نفضت نور عن رأسها هذا الكم الهائل من الذكريات .. عندما أوشكت على دخول فصلها .. وكانت مستغربه أن الدكتور لم يكن قد حظر إلى الآن .. كان قسم تكنولوجيا المعلومات يعج بالفوضى .. في خضم ذلك النقاش الدموي الدائر بين البنات والشباب .. وكان مندوب الدفعة يقف في مقدمه الفصل وهو يحاول أن يستمع لأكبر كم من الحوارات التي تلفه ..
لم تستغرق نور الكثير حتى وجدت صديقتها الحميمة رهف تشير إليها لتجلس بجانبها ..
تقدمت نور من صديقتها اللطيفة والتي كانت تشبهها في نواحي كثيرا ابتداء من نحافة الهيئة .. ونعومة تعابير الوجه .. وصولا إلى حسن الأخلاق .. وطيبه النفس ..
قالت محاوله منع ضحكها :
- ما الذي يحدث هنا .. هل ينون القيام بانقلاب على الدكاترة ؟.
- لا بل ينون قتل بعضهم البعض كما هو ظاهر ..
أفلتت نور ضحكتها ثم تذكرت :
- لماذا لم يأتي الدكتور حتى الآن .
أجابتها رهف :
- لقد خرج قبل قليل ....
قاطعتها نور :
- حقا .. ولماذا خرج ؟.
قالت رهف مهدئه :
- ألن تكفي عن استعجالك الدائم هذا .. لقد طرد نصف الصف فور دخوله إلى القاعة .. بحجه أنهم لم يكونوا يجلسون على كراسيهم استعدادا لمجيئه .. من ثم أتى بحجه أننا لا نلتزم الصمت التام في القاعة .. فخرج بعد إعلانه أن الدرس مشروح ..
أضافت نور بحرقه :
- وكأننا بحاجه لشرحه الذي لا يصل سوى الجالسين في السطرين الأماميين في الفصل ..
أيدتها رهف بهزه من رأسها .. وعادت تتابع ذلك النقاش الدائر في الفصل .. فعادت نور تتساءل :
- وما هو سبب هذه الفوضى ؟.
أجابت رهف باستهتار :
- كالمعتاد في أول كل فصل دراسي .. يتنازعون على كيفيه تقسيم المجموعات الدراسية التي ستحظر المختبرات التطبيقية ..
لم تضف نور شيئا .. وأخذت هي الأخرى تتابع ذلك الحوار ولكن ما هي إلا ثواني حتى تهيئ لها أن صديقتها تقول شيئا مع أن رهف لم تكن تلتفت لها .. ولكنها نظرت متسائلة :
- هل تكلمينني يا رهف ؟.
هزت رهف رأسها بالنفي وهي مستمرة بما تقوله .. قربت نور رأسها وأرهفت السمع ففوجئت بان صديقتها تغني بصوت مسموع ولكنه غير مفهوم بنفس الوقت بفعل ارتفاع الأصوات التي حوله .. انفجرت نور ضاحكه وهي تتساءل :
- ما الذي تفعلينه أيتها المجنونة ؟.
ابتسمت رهف تلك الابتسامة الخلابة التي تكشف عن نقاء قلبها .. والتي تجعل وجهها الجميل يزداد إشراقا :
- لا عليكِ .. افعلي ما تشائين .. فليس هنالك من يرى أو يسمع ..
عادت نور تضحك من جديد .. فقاطعتها رهف باهتمام بعد أن تذكرت :
- صحيح .. أنت لم تخبريني عن سبب تأخرك في المجيء اليوم ؟.
- لم استطع الاستيقاظ مبكرا ..
لاحظت رهف بان هنالك حزن تخلل كلمات نور .. ولكنها لم تحب إحراجها وقالت محاولة تغيير الموضوع :
- وكيف نجحت أخيرا في النهوض ؟.
ابتسمت نور من جديد بعد أن استطاعت التغلب على مسحه الحزن التي علت وجهها :
- بفضل السيمفونية المشهورة لأمي والخال نبيل ..
- أما زال مثلما هو ؟.
هزت نور رأسها وهي تقلب عينيها بسخرية .. فأردفت رهف :
- على الأقل هنالك شيء مفيد قدمه لك اليوم .. بأن جعلكِ تستيقظي .
ظلت نور صامته وكأنها ترفض الاعتراف بأي فضل يقدمه زوج أمها حتى ولو من باب المزح .. تساءلت رهف بأسى :
- والله أنا لا اعرف ما الذي يدفع أمك لتحمله كل هذه المدة .. فهي مدرسه وراتبها سيعيشكما مثل الأمراء ؟.
أجابت نور ببرود .. فلقد وطنت نفسها لتتعايش مع هذا الوضع المزري الذي خلق منذ دخول زوج أمها نبيل حياتهما :
- آمي وافقت عليه بعد إلحاح منه .. وعدم معرفه كاملة به .. إضافة إلى تأيد الأصدقاء والأقارب لها .. فنحن كما تعلمين لا يوجد لدينا رجال في المنزل بعد والدي رحمه الله .. ومجتمعاتنا الشرقية لا ترحم النساء الوحيدات أمثالنا ..
أطلقت نور زفره سخريه من انفها وهي تردف :
- وكان المرأة لن تصبح كاملة إلا بوجود رجل في حياتها .. حتى لو كان مثل الخال نبيل .
توقف حديث الصديقتان .. وتوقف نقاش كل الموجودين في الفصل .. مع دخول الدكتور ليلقي المحاضرة التالية .. لقد كانت نور تستمتع كثيرا بهذه المحاضرة ..
فهنالك دكاترة يشعرونها بالملل الشديد .. وتحس كأنها تجلس على كرسي من الجمر ولا تستطيع سوى أن تحصي الدقائق التي تمر وهي تتعذب .. ولكن البعض الآخر تحس بأنها تعيش معهم جو المحاضرة وتكون متفاعل بكل حواسك .. ولا يعاملونها على أنها مثل الحصالة .. خزن مؤقت من ثم تفريغ .. لتعود وتخزن من جديد .. مع العلم بأن النوع الأخير نادر جدا في كليتها المشهورة بمزاجيه الدكاترة وظلمهم ..
توجهت الصديقتان نحو ساحة الكلية بعد انتهاء المحاضرة الأخيرة .. وتهيأتا للجلوس في ركن من أركانها والتي تظللها الأشجار حتى تستذكران بعض الدروس .. أشارت رهف لصديقتها بعينيها حتى تلتفت خلفها نحو الساحة التي كانت لاتزال تعطيها ظهرها ..
حين التفتت فوجئت برؤيتها لذلك الشاب الأبيض طويل القامة ذو الوجه الوسيم .. والذي كان يسير برفقه زملائه ويسترق النظر إليها بين الحين والآخر من خلال عينيه البنيتين .. التقت عينيهما للحظه مما جعل قلبها يخفق بعنف .. لم تستطع سوى أن تبتسم له بلطف ثم أشاحت بوجهها عنه بسرعة .. وقالت مؤنبه لرهف من خلال أنفاسها المتلاحقة :
- لماذا جعلتني التفت إليه ؟
أجابت رهف مدافعه عن نفسها :
- لأن ما تفعلينه معه ليس صحيحا .
تحدتها نور وهي ترفع احد حاجبيها :
- وما الذي افعله ؟.
- انك تحاولين دائما تجاهله يا نور .. إلى متى ستستمرين في عنادك هذا .. لا تنكري انك لازلتِ تحبينه .. وهو أيضا يكاد الحب ينطق من عينيه عندما ينظر إليك ..
جلست نور وهي تحاول السيطرة على انتفاضات أحاسيسها لرؤيته .. إنه لا يكبرها إلا بسنتين .. وهو في سنته الأخيرة في قسم الكهرباء .. وهذا يشكل احد الأسباب التي تجعل نسيانه مستحيلا ..
فتحت كراستها بهدوء على الصفحة التي كتبتها بالأمس .. وأعطتها لرهف ..
لم تجد رهف كلمات تقولها بعد أن قرأت ذلك الحزن الكائن في اسطر الكراسة التي بين يديها .. ثم قالت وهي تغالب مشاعر العطف الذي تحسه دوما نحو نور :
- من الممكن أن يكون تغير يا نور .. فالسنين كفيله بان تجعله أكثر نضجا .. حتى أنت تغيرت ..
- أنا لا أريد أن أعيش الأوهام ..
- إن حبه لك حقيقة تكاد تكون مؤكده في حياتك يا نور .. لماذا تستمرين بتعذيب نفسك وتعذيبه معك .. ألا تشعرين بشوقه لكِ ..
سرحت نور قليلا .. ثم أردفت وكأن عقلها يسعى لإقناع قلبها الهائج :
- وهل يكفي ذلك ؟.
- وما الذي تريدينه ..
- أنا لم أكن اشعر بنقص في مشاعره نحوي يا رهف .. ولكن الخلل مني أنا .. فانا إنسانه لم تخلق لتؤدي ادوار الحب والصبابة ..
- ومن قال لك ذلك ؟. بالعكس أنت إنسانه محبه .. وحساسة جدا .. وأنا اشعر دائما انك من الأشخاص الذين خلقهم الله ليسعدوا من حولهم ..
ظهر اعوجاج خفيف على شفتي نور وهي تبتسم بسخرية :
- لقد كنت أحبه حقا .. بل اعشقه .. ولشده حبي كنت احرص على كل فعل وقول أقوم به نحوه .. أمله أن يبارك الله لنا في كل أيامنا معا .. ولكنني كنت اخدع نفسي عندما توهمت انه يفكر مثلي ..
- انه شاب يا نور .. ولا احد يستطيع لومه ..
- وهل يقع اللوم علي أنا ..
- لا .. لقد قمت بما هو صواب ولكنني أتمنى أن تمنحيه فرصه أخرى ..
- لا اعرف يا رهف .. فانا لا أود أن أجازف من جديد بمشاعري .. إنها أغلى ما املك .. لقد نصحني بالنسيان .. وهذا ما أحاول فعله الآن .. بعد أن نسي هو روابط الأخوة التي كانت ومازالت تشدنا لبعض ..
حاولت رهف قول شيء .. ولكن نور قاطعتها بحده :
- كفانا حديثا عن سامح الآن .. ولنبدأ بالمذاكرة .. التي يبدوا أننا لن نكملها أبدا ..
ابتسمت رهف برقه بعد أن استسلمت .. ثم أضافت وهي تنظر إلى الساعة على معصمها :
- نعم .. يجب علينا أن نسرع فاحمد سيحضر بعد اقل من نصف ساعة ليصطحبني معه إلى البيت ..
أشرق وجه نور بنفس تلك الفرحة التي تتوهج على وجه صديقتها .. وتلون خدودها بحمره خفيفة :
- هل عاد احمد من سفره ؟.
- نعم .. الم اقل لك بأنه سيأخذ أجازه حتى يستطيع الإشراف على بناء منزلنا ..
- بلا ولكنك لم تقولي انه سيأتي اليوم ..
وقبل أن تجبها رهف أضافت قائله وهي تبتسم وتنظر من خلف كتفها :
- يبدوا أننا فعلا لن نستطيع استذكار شيء من دروسنا هذا اليوم ..
-
حولت رهف نظرها .. لترى ذلك الشاب لطيف الملمح الذي كان يقترب منهما بخطواته الواثقة .. وعيناه مصوبتان نحوها .. وكأنه لا يحس إلا بوجودها هي .. رغم كل الإزعاج الذي كان يغمر الساحة ..
تساءلت نور باستغراب وهي تشارك صديقتها النظر إلى ذلك الشاب :
- كيف يستطيع خطيبك المحافظة على صفاء بشرته وهو يعمل على متن السفن ..
قالت رهف مازحه :
- أنا أعطيه خلطه سريه في كل مره يسافر فيها ..
انفجرت نور ضاحكه :
- إن هذا شيء غير مستبعد عليك .
أجابت رهف هذه المرة عن السؤال بجديه وهما تقفان لاستقبال احمد :
- انه لا يتعرض للشمس كثيرا .. فهو يعمل كمهندس لمكائن الباخرة ..
هزت نور رأسها .. وانقطع الحوار بينهما عندما أصبح احمد أمامها .. تبادل الثلاثة كلمات التحية .. وكانت نور تحس بالخجل الشديد وهي تقف مع هذان المحبان .. في لقائهما الأول بعد طول فراق .. وسرعان ما استأذنت منهما :
- سأترككما الآن .. فلقد تأخرت كثيرا عن العودة إلى البيت .
رد عليها احمد :
- لما لا تأتين معنا ؟.. فسيارتي في الخارج ويمكننا إيصالك إلى حيث تريدين .
أجابت نور بحياء .. وهي تودعهما مجددا :
- لا ليس هنالك داع لذلك .. فمنزلي لا يبعد كثيرا .. كما أني أود أن اذهب إلى مشوار .
رفعت رهف حاجبها وهي ترمقها بنظرات شك :
- وأي مشوار هذا يا نور ؟. والذي لا اعلم عنه شيئا .
- سأذهب إلى عيادة حسام .. هل ارتحت الآن .
قال الخطيبان معا :
- ابلغيه سلامنا .
ضحك الجميع .. وأخذت نور تبتعد عنهما متجهه نحو عيادة حسام .. والتي كانت في الطريق المؤدي إلى بيتها .. كانت قد اتفقت مسبقا معه ليزور والدتها ويقيس ضغطها الذي تشك هي في ارتفاعه المستمر .. ومؤكد أن السبب معروف ..
دخلت نور العيادة .. فقابلتها الممرضة بابتسامه عريضة وهي تتأملها بإعجاب :
- أهلا بمهندستنا الجميلة .
ابتسمت نور بحياء بالغ .. فهي لم تكن تفلح بالتعامل مع كلمات الإطراء التي تربكها :
- أشكرك يا خاله .. هل الدكتور حسام موجود .
- نعم ولكنه برفقه آخر مريض له .
ظلت نور تتحدث مع الخالة نظره .. تلك الإنسانة اللطيفة التي لا تملك أي شهادات أو حرف في الحياة .. ولكنها تملك فقط خمسه أولاد صغار .. تركهم والدهم لها بعد أن هجرها ..
ولكن حسام كان المنقذ لها .. فعندما جاء من لندن وقرر فتح عيادته الخاصة .. عرض على نور أن يوظفها معه كممرضه .. فتعاون الاثنان في تدريبها .. كان هو يلقيها كل المهارات الضرورية لجعلها ممرضه ماهرة .. وكانت نور تدرسها يوميا الكتابة والقراءة ..
عرضت الخالة نظره على نور قائله :
- لما لا تدخلين وتستعجليه .. فمؤكد انه قد أكمل عمله .. وهو الآن يمازح الطفلة الصغيرة .. وكما بدا لي أن والدها صديقه ..
ابتسمت نور بحب صادق وهي تتكلم عن ابن عمها :
- اعلم هذا .. فهو ينسى نفسه أحيانا عندما يدير حديث مع الأطفال .. ولكني لا أود إزعاجه .
في تلك الأثناء .. فتح باب الحجرة .. وخرج الشاب برفقه حسام الذي كان يحتضن طفله بين ذراعيه .. ويحدثها قائلا بصوته الدافئ المليء بالحنان وابتسامته الساحرة تعلو وجهه الأسمر الجذاب :
- يجب أن تأتي دائما وتزوريني .. حتى اطمئن عليك ..
هزت الطفلة رأسها بحماس الموافقة :
- سأزورك كل يوم عندما أعود من الروضة .
انتبه حسام لنور التي كانت تشاركهم الضحك .. وتقدمت لتأخذ الطفلة منه .. وهي تحاول التعرف عليها .. أشار حسام إلى صديقه :
- آه يا نور .. هل أتيت .. أعرفك على صديقي محمد وزميل دراستي .
حيت نور محمد بهزه من رأسها .. وبتلك الابتسامة اللطيفة التي لا تفارق شفتاها :
- تشرفت بمعرفتك .
أكمل حسام حوار التعارف بان أشار إلى نور :
- هذه هي صغيرتي نور .
لم يقم محمد بأي رد .. لقد كان ينظر إلى نور وعلى وجهه دهشة بالغه .. وشيء من الإعجاب مما أخجلها كثيرا .. وجعلها تحول نضرها نحو الطفلة التي بين أحضانها .. وما هي إلا ثواني حتى قال محمد بحده :
- هل هذه هي صغيرتك نور ...
هز حسام رأسه بالإيجاب وهو يبتسم .. لصديقه الذي أردف :
- لقد كنت أتخيلها فتاه في الثانية من عمرها ..
كتمت نور ضحكتها .. فهي تدرك مدى محبه حسام لها.. ولم تستبعد وصول صديقه لمثل هذا الاستنتاج .. فأضافت مازحه :
- لقد اقتربت كثيرا من تخمين عمري .. ولكنك حذفت الصفر منه ..
أردف محمد بعد أن أحس بما سببه لها من خجل :
- أنت لا تعلمين كم كان حسام يتحدث عنك .. ولكنه كان دائما يقول ( صغيرتي نور ) .. اعذريني يا انسه نور .
شدد محمد على عبارته الأخيرة وهو يرمق حسام بنظره مازحه .. فتدخلت طفلته متسائلة :
- هل اسمك نور ؟.
- نعم يا حبيبتي ..
- إن دميتي أيضا اسمها نور .
- وهل هي جميله مثلي .
- لا بل أنت أجمل .
قالت نور وهي تحتضنها بحب :
- بل أنت هي الأجمل بين كل الفتيات .
شهقت الطفلة بفرحه رافعه حاجباها .. وهي تنظر لأباها :
- هل سمعت يا أبي ؟.
أخذها حسام وقبلها قبل أن ينزلها على الأرض :
- وهل ما زلتِ على وعدك لي أيتها الجميلة ؟.
ابتسمت الطفلة بمرح وهي تلوح بيدها مودعه :
- بالطبع ..
أردف محمد :
- إلى اللقاء يا حسام .. لقد كانت مصادفه لطيفه .. جعلتنا نتعرف بها على صغيرتينا ..
التفت حسام لنور والخالة نظره قائلا :
- ما رأيكما بخطيبتي ؟.
ضحكت نور :
- ليتك تكون جادا وتعلن خطبتك على أي فتاه تعيسة الحظ .. فأنت لم تعد صغيرا أيه العجوز .
أجابت الخالة نظره مدافعه عنه :
- تعيسة الحظ .. يجب أن تحمد ربها ليلا ونهارا من سيقع اختياره عليها ..
ثم أردفت وهي تنظر لهما بحب صادق :
- إنشاء الله يأتي اليوم الذي أراكما عريسين فيه ..
احمر وجه نور خجلا .. فهي تعلم محبه الخالة نظره لهما .. وكم تتمنى ارتباطهما ببعض ..
ولكنها قالت محاوله توضيح دعوتها :
- أنا مؤكد ستفرحين بي قبله .
رد حسام على تعليقها .. وهو يشير لها بيده حتى تسير أمامه :
- هيا .. هيا وكفاك ثرثرة .. ولنذهب إلى البيت .
وقبل أن يخرجا من العيادة .. التفت حسام للخالة نظره التي كانت لا تزال ترتب المكان :
- ألن تأتي معنى يا خاله ؟.
- لا يا حبيبي .. أنا سأجلس قليلا لأنهي بعض الأعمال .
- كما تشائين .
في المنزل .. وبعد أن طمئن حسام والدتها بان ضغطها في حاله جيده .. وأعطاها بعض التعليمات .. خرجت الأم من الحجرة لتعد له الشاي .. ولتتركه برفقه نور .. فهي تعلم مدى تعلق ابنتها به .. ومؤكد أن في جعبتها الكثير لتخبره ..
أفاقت نور من شرودها .. بسبب ذلك الصوت الدافئ الحنون :
- ما بك يا صغيرتي ؟.
هزت نور رأسها بعنف وكأنها تنفي عن نفسها تهمه :
- لا شيء .
لم يستطع حسام التغلب على تلك الابتسامة الجذابة .. التي تخطف الأنظار :
- ولكني لا أصدقك .
وقبل تعاود الحديث .. أضاف متسائلا :
- هل رايته ؟.
عاد الصمت يلف نور .. من ثم هزت رأسها ببطء علامة على الإيجاب :
- متى سأستطيع أن أنساه ؟.
- ولماذا تودين نسيانه .. انه سيظل دائما جزءا من حياتك .. ويجب أن تعود العلاقة بينكما كما كانت دائما .. فأنت في الأخير إخوة ..
- معك حق ..
كان حسام يود أن يضيف شيئا ولكنه سرعان ما عدل عن ذلك .. فهمت نور أن أمها قد عادت وبيدها صينيه الشاي .. فوقفت مسرعه لتأخذها منها .. فبدأ حسام يتحدث مع العمة حياه حتى أكمل فنجانه .. واستأذن للخروج .. لم تفلح محاولاتهما في استبقاءه على الغداء .. فلقد كان حسام خجول جدا .. ولم يتعود دخول البيت كثيرا بعد وفاه عمه .. إلا عند الضرورة طبعا ..
رافقته نور حتى باب الخروج .. وهناك حدثها والاهتمام ينبض من عينيه :
- هل ستجعلينني أخروج .. وأنا أرى الحزن يلمع في عيني صغيرتي .
هزت نور رأسها بسرعة .. وهي تضع على شفتيها أجمل ابتسامه .. فهي لم تكن أبدا تميل إلى الكآبة .. بادلها حسام الابتسام :
- هذا ما أود أن أراه دائما .. لا تقسي كثيرا على نفسك يا نور .. وتذكري انه كان أول شخص يدخل حياتك .. وانك لا تزالين في مقتبل العمر .. ولن تستطيعي فهم الكثير من مشاعرك .. وتأكدي أيضا من أنني سأظل بجانبك .. وسأحمل همك ما حييت فأنت ستبقي أختي الصغيرة مهما حدث .
- معك حق .. وأنا لم اشك في أخوتك ومحبتك لي أبدا .. رغم كل شيء ..
- أكيد معي حق .. فانا لا أخطئ أبدا .
قلبت نور عينيها متصنعه الاستخفاف بحديثه .. بعد أن افلح بتغيير مزاجها .. ثم أضاف وهو يسمع حركه الخالة حياه داخل البيت :
- وداعا الآن .. يجب أن اذهب قبل أن تأتي والدتك وتحاول إقناعي من جديد بالبقاء .
ودعت نور ابن عمتها .. وهي تحس وكأنها وجدت نفسها الضائعة ..
وجدت تلك الفتاه المرحة التي اعتادت عليها ..
والتي لم يكن يتخلل أيامها سوى المرح ..
إنها تحس الآن تماما وكأنها نسيته ..
ليس بالمعنى الحرفي للكلمة .. ولكن كان الذي كان بينهم لم يكن يوما ...
تحياتي