قال الشيخ الألباني:
- " اختلاف أمتي رحمة " .
لا أصل له .
ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا ، حتى قال السيوطي في " الجامع الصغير " : ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا ! .
وهذا بعيد عندي ، إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم ، وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده .
ونقل المناوي عن السبكي أنه قال : وليس بمعروف عند المحدثين ، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع .
وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على " تفسير البيضاوي " ( ق 92 / 2 ) .
ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء ، فقال العلامة ابن حزم في "
الإحكام في أصول الأحكام " ( 5 / 64 ) بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث :
وهذا من أفسد قول يكون ، لأنه لوكان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا ، وهذا ما لا يقوله مسلم ، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف ، وليس إلا رحمة أوسخط .
وقال في مكان آخر : باطل مكذوب ، كما سيأتي في كلامه المذكور عند الحديث ( 61 ) .
وإن من آثار هذا الحديث السيئة أن كثيرا من المسلمين يقرون بسببه
الاختلاف الشديد الواقع بين المذاهب الأربعة ، ولا يحاولون أبدا الرجوع بها إلى الكتاب والسنة الصحيحة ، كما أمرهم بذلك أئمتهم رضي الله عنهم ، بل إن أولئك ليرون مذاهب هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما هي كشرائع متعددة ! يقولون هذا مع علمهم بما بينها من اختلاف وتعارض لا يمكن التوفيق بينها إلا برد بعضها المخالف للدليل ، وقبول البعض الآخر الموافق له ، وهذا ما لا يفعلون ! وبذلك فقد نسبوا إلى الشريعة التناقض ! وهو وحده دليل على أنه ليس من الله عز وجل لو كانوا يتأملون قوله تعالى في حق القرآن : { ولوكان من عند غير الله لوجدوا
فيه اختلافا كثيرا } فالآية صريحة في أن الاختلاف ليس من الله ، فكيف يصح إذن جعله شريعة متبعة ، ورحمة منزلة ؟ .
وبسبب هذا الحديث ونحوه ظل أكثر المسلمين بعد الأئمة الأربعة إلى اليوم مختلفين في كثير من المسائل الاعتقادية والعملية ، ولو أنهم كانوا يرون أن الخلاف شر كما قال ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم ودلت على ذمه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة ، لسعوا إلى الاتفاق ، ولأمكنهم ذلك في أكثر هذه المسائل بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يعرف بها الصواب من الخطأ ، والحق من الباطل ، ثم عذر بعضهم بعضا فيما قد يختلفون فيه ، ولكن لماذا هذا السعي وهم يرون أن الاختلاف رحمة ، وأن المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة ! وإن شئت أن ترى أثر هذا الاختلاف والإصرار عليه ، فانظر إلى كثير من المساجد ، تجد فيها أربعة محاريب يصلى فيها أربعة من الأئمة !
ولكل منهم جماعة ينتظرون الصلاة مع إمامهم كأنهم أصحاب أديان مختلفة ! وكيف لا وعالمهم يقول : إن مذاهبهم كشرائع متعددة ! يفعلون ذلك وهم يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم :
" إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " رواه مسلم وغيره ، ولكنهم يستجيزون مخالفة هذا الحديث وغيره محافظة منهم على المذهب كأن المذهب معظم عندهم ومحفوظ أكثر من أحاديثه عليه الصلاة والسلام !
وجملة القول أن الاختلاف مذموم في الشريعة ، فالواجب محاولة التخلص منه ما أمكن ، لأنه من أسباب ضعف الأمة كما قال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } ، أما الرضا به وتسميته رحمة فخلاف الآيات الكريمة المصرحة بذمه ، ولا مستند له إلا هذا الحديث الذي لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهنا قد يرد سؤال وهو : إن الصحابة قد اختلفوا وهم أفاضل الناس ، أفيلحقهم الذم المذكور ؟ .
وقد أجاب عنه ابن حزم رحمه الله تعالى فقال ( 5 / 67 - 68 ) : كلا ما يلحق أولئك شيء من هذا ، لأن كل امرئ منهم تحرى سبيل الله ، ووجهته الحق ، فالمخطئ منهم مأجور أجرا واحدا لنيته الجميلة في إرادة الخير ، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه ولا قصدوه ولا استهانوا بطلبهم ، والمصيب منهم مأجور أجرين ، وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه ، وإنما الذم المذكور والوعيد المنصوص ، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى وهو القرآن ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النص إليه وقيام الحجة به عليه ، وتعلق بفلان وفلان ، مقلدا عامدا للاختلاف ، داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية ، قاصدا للفرقة ، متحريا في دعواه برد القرآن والسنة إليها ، فإن وافقها النص أخذ به ، وإن خالفها تعلق بجاهليته ، وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء هم المختلفون المذمومون .
وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل ، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كل عالم ، مقلدين له غير طالبين ما أو جبه النص عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .
ويشير في آخر كلامه إلى " التلفيق " المعروف عند الفقهاء ، وهو أخذ قول العالم بدون دليل ، وإنما اتباعا للهو ى أو الرخص ، وقد اختلفوا في جوازه ، والحق تحريمه لوجوه لا مجال الآن لبيانها ، وتجويزه مستوحى من هذا الحديث وعليه استند من قال : " من قلد عالما لقي الله سالما " ! وكل هذا من آثار الأحاديث الضعيفة ، فكن في حذر منها إن كنت ترجوالنجاة { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } .
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة 57
ملتقى أهل الحديث