بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
قال الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْآيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَىالْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَهُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْبَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
وقال تعالى {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
وقال صلى الله عليه وسلم : " من فارق الجماعة شبراً مات َمِيتَةٌ جاهلية ". متفق عليه .
وقال صلى الله عليه وسلم : " ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ". رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما .
وقال صلى الله عليه وسلم :" إنه ستكون هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ ـ أي: أحوال وفتن ـ فمن أراد أن يُفَرِّق أمر هذه الأمة , وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً منكان". رواه مسلم عن عرفجة رضي الله عنه .
فالجماعة والاجتماع من أصول الدين ومحكماته ، والعبادات العامة كالصلاة والصوم والحج والأعياد وغيرها دليل عملي على ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمـه الله تعالـى : ( وهــــذا الأصل العظيم، وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً، وألا نتفرق: هو من أعظم أصول الإسلام ، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغـيـرهـــم، وممــا عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة أو خاصة ، مثل قوله: " عـلـيكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة " ... وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غـيــرهــا: هو التفرق ... ) . أ . هـ . ( رسالة خلاف الأمة في العبادات 32 ـ 34).
يعين على تحقيق هذا الأصل العظيم :
أولاً : سلامة الصدور وتنقية النفوس من الأغلال والأحقاد والكراهية والضغائن والبغضاء، والتحلي بالتسامح والتغافر والتعاذر والرحمة والشفقة { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم } .
ثانياً: العمل ما أمكن في خطوط متوازية ومتعاضدة غير متقاطعةولا متعاندة بحيث تكمل الجهود بعضها بعضاً .
ففي الناس من لديه همة لإحياء شعيرة من شعائر الدين ، وفيهم من لديه همة لإحياء شعيرة أخرى وفي كل خير ، وافتعال الخصومة أو التضاد بين هذه الأعمال المتنوعة قد يضيع كثيراً من الجهود ، ويهدر كثيراً من الطاقات ،ويُقعِد الناس عن العمل ، ويُحدِث نوعاً من البلبلة والاختلاط والتردد والضعف ، وقد يؤْثِر الكثيرون الابتعاد عن الدعوة والخير والعلم ، لما يرون من العداوات والبغضاء والتناحر ، فيطلبون السلامة لقلوبهم والهدوء لأنفسهم في أجواء آمنة مستقرة ، حتى ولو لم يكن فيها عمل ولا خير ، ولكنها أجواء طبيعية بعيدة عن مثل هذا التوتر .
ثالثاً : تفعيل مبدأ النصيحة ، قال صلى الله عليه وسلم :" الدين النصيحة "، قالوا : لمن يا رسول الله ؟, قال :" لله ولكتابة ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم ".
وتفعيل مبدأ النصرة كما في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً ؛أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال: " تحجزه أو تمنعه من الظلم ؛ فإن ذلك نصره "رواه البخاري .وفي لفظ عنده:" تأخذ فوق يديه ". وفي لفظ آخر :" تأخذ من نفسه لنفسه ". رواه البخاري .
لا تنصره على الباطل ، ولا تواليهولاءً مطلقاً عاماً في الخير والشر ، وفي الحق والباطل ، وإنما تكون معه على الخير ، وتنصحه عند الخطأ ؛ فلا عصبية لشخص ولا لرأي ولا لمذهب ؛ وإنما الولاء للحق ، والحق يكون تارة مع هذا وتارة مع هذا ، وأحياناً يكون في الموقف الواحد جزء من الحق مع هذا ، وجزء من الحق مع ذاك.وبالدربة وطول الوقت يُعوِّد الإنسان نفسه على الدوران مع الحق كيفما دار ومع من كان .
رابعاً : الحذر من تنزيل النصوص على غير وجهها . فالبعض يرى أن الأحاديث الواردة بلزوم الجماعة تنطبق على جماعة خاصة أو رأي معين .وهذا فهم عكسي للآيات والأحاديث التي تدعو المسلمين للاجتماع .
فبعض الجماعات تعتبر هذه النصوص خاصة بها ، وتلزم الناس بالاتفاق عليها وبيعتها وطاعتها واتِّباعها ، وتعتبر من لم يوافقها فيما أرادت أنه قد نزع يداً من طاعة ، وخلع ربقةالإسلام من عنقه ، وإن مات على ذلك فميتته جاهلية ، ويلقى الله يوم القيامة ولا حجة له إلى غير ذلك .وفي هؤلاء يقول الله تعالى { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }.
خامساً: يجب الحذر من أن يبني المرء دعوته ويثبت وجوده بتقويض جهود إسلامية أخرى صحيحة ، لا ضالة ولا مبتدعة ، وإنما هي جهود على منهج سليم في الجملة ، لكنها قد تختلف في مسائل فرعية أو جزئيات واجتهادات في تنزيل بعض النصوص على بعض الأحوال ، وهذا ــ أي الخلاف ــ مما لا سبيل إلى الفرار منه .إنما هو خلاف سائغ يجب قبوله والتعامل معه .
وله أمثلة كثيرة فقد اختلف فقهاء الأمة وعلماؤها في مسائل عديدة كخلافهم في فروع الفقه ومنه خلاف المذاهب الفقهية، وكذلك فروع العقيدة كرؤية الرسول ربه ليلة المعراج، وكنه المعراج بنبينا، هل هو بالروح أم بالجسد
أقول : من الخطأ أن يكون الجهد في ما يكتب ، وما يقال يصبُّ في محاولة مصادرة الآخرين أو القضاء عليهم أو التحذير منهم بحجة أنهم خالفوا ما هو عليه أو رأى هو أن عندهم شيئاً من التقصير . وحتى لو افترضنا أن عندهم شيئاً من التقصير ؛ فهناك من هو أولى بصرف الجهد للرد عليه والتحذير منه وهدم جهوده ودعوته منهم .
فهناك الكفار الأصليون الظاهرون وجوداً ، والظاهرون قوة وتمكيناً ، وهناك أهل النفاق الذين بدأوا ينخرون في جسد المجتمع كما ينخر السوس الخشب ، وهناك أهل البدع الظاهرة المتحزبون على بدعهم ، فالاختلاف والتناحر داخل الإطار العام ، الذي أجمع عليه السلف الصالحون ، ليس من المصلحة في شيء .
سادساً : كما ينبغي الاحتراز من الاجتماع والتحزب على فهم خاص للنصوص ، أو فروع اجتهادية محتملة ، قد تفصلنا عن الآخرين، وتجعلنا عرضة للانشقاق ولو بعد حين ؛ لأنها بطبيعتها ليست ثابتة، بل متغيرة ، و ليست أصولاً بل فروع حولناها إلى أصول بالإلحاح عليها وتكبيرها وإلا فهي في ابتداءها قد تكون فروعاً اجتهادية أو محاولات دعوية لها جوانب خير .لكن الخطأ الفادح أن نجعلها أصولاً نوالي ونعادي عليها .
* الاجتماع على محكمات الشريعة عاصم من التفرق بإذن الله :
ومن أكبر ما يعين على جمع الكلمة ووحدة الصف : الاجتماع على محكمات الشريعة ، التي أجمع عليها السلف الصالح ، وقبول الخلاف فيما اختلفوا فيه .
فنتفق ونُجمع على ما أجمعوا عليه من محكمات الشريعة ، ونقبل الاختلاف فيمااختلفوا فيه . فإذا ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم أو الأئمة من السلف الصالح قد اختلفوا فلا تثريب ولا غرابة أن يقع هذا الاختلاف فيمن كان بعدهم . والمحكم في المعنى اللغوي يشمل ثلاثة معانٍ :
أولاً: أن هذا المحكم محفوظ لا يمكن تغييره ولا تبديله فتقول: هذا شيء محكم أي : ليس بمنسوخ فهو ثابت لا يمكن تغييره ولا استبداله.
ثانياً: هو الواضح البين المفسَّر الذي ليس فيه غموض ولا خفاء.فهذه المحكمات مع كونها ثابتة مستمرة ؛ فإنها واضحة ظاهرة سهلة الفهم، سهلة القبول، سهلة التلقين لعامة الناس .
ثالثاً :كون هذه المحكمات أصولاً ثابتة، ومراجع ترجع إليها الفروع ، ويعاد إليها ما خرج منها ؛ فهي أصول ثابتة يتفرع عنها أشياء أخرى.
هذه المحكمات التي يجب أن يكون الاتفاق عليها وليس على غيرها ؛ هي المسائل الواضحة البينة الأصلية التي جاءت بها الشريعة الربانية، وأجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالحون نُجمِل أهمها :
1 ــ التوحيد وإفراد الله تعالى بالعبادة ، وتحريم الكفر والشرك والنفاق.
2 ــ أركان الإسلام الخمسة ، وأصول الإيمان الستة .
3 ــ قواعد الأخلاق التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم بل جاء بها الأنبياء كلهم كوجوب الصدق، وتحريم الكذب ووجوب العدل وتحريم الظلم والفواحش ووجوب البر وتحريم العقوق، وما أشبه ذلك.
4 ــ ومن ذلك : جوامع المنهيات الثابتة في القرآن والسنة كما في حديث السبع الموبقات وغيره.
ويتحقق من خلال هذه المحكمات أمران عظيمان :
الأول: سلامة دين المسلمين ، والمحافظة على وحدتهم .
الثاني: المحافظة على الدنيا، وهذا ما يعبر عنه العلماء والأصوليون بحفظ الضروريات الخمس التي لابد من حفظها وهي : حفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ النفس، وحفظ العقل.
كل الأوامر والنواهي تدور حول تحقيق هذه الأشياء الخمسة. وهذه الأشياء تتحقق للمؤمنين ولطوائف من غير المؤمنين ممن عمَّتهم رحمة الإسلام كالذين يقعون تحت سلطة الإسلام ، أو يدفع الله تعالى عنهم بالإسلام بعض الضرر، والتاريخ زاخر بالأخبار التي تؤكد ذلك .
5 ـــ ومن محكمات الشريعة قوله تعالى { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِشَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍنَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَاوَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَالْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواالْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَاوَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِأَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَنَّ هَذَاصِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَبِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن كعب الأحبار أنهقال : ( كان أول ما نـزل من التوراة عشر آيات، وهي العشر التي أنـزلت في آخر سورة الأنعام ). وهي ما يسمونها بـ " الوصايا العشر " وعليها مدار الرسالات السماوية ، والرسل صلى الله عليهم وسلم جميعاً ، اتفقوا في أشياء واختلفوا في أشياء، ومما اتفقوا عليه هذه الوصايا العشر التي عليها مدار صلاح الدين والدنيا، وأما ما اختلفوا فيه، فمن الفروع، في الأحكام، والحلال والحرام وغير ذلك من المسائل المؤقتة القابلة للتغيير والتبديل والنسخ.
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عندما سئل عن قول الله عز وجل {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّأُمُّ الْكِتَابِ } فأجاب : " إن في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب" ثم قرأ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } . رواه الحاكم وابن أبي حاتم فيالتفسير .
وروى الطبري في تفسيره أنه قال ـ يعني ابن عباس ـ : المحكمات هي الآيات الثلاث من سورة الأنعام ، وكذلك من سورة الإسراء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَرَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِيجَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً }.
فهذه الآيات فيها تحديد للمحكمات والقطعيات والضروريات، التي عليها مدار الاجتماع ومدار وحدة الكلمة .
والمحكمات الواردة في هذين الموضعين من القرآن الكريم عشرة :
أولاً: وجوب عبادة الله وتحريم الشرك به .
ثانياً : وجوب بر الوالدين والإحسان إليهما .
ثالثاً :وجوب حفظ النفس، وتحريم القتل بغير حق سواء كان قتلاً للقريب كالأولاد، أو للبعيد.
رابعاً : تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
الفواحش الظاهرة كالزنا، وشرب الخمر، والربا وغيرها.
والفواحش الباطنة كالفواحش القلبية مثل: الغل، والحقد، والحسد، والنفاق، وغيرها من المعاني الباطنة، ومثله ما يقع في الخفاء من الفواحش .
خامساً : حفظ المال وأداء الحقوق فيه للمحتاجين، ومن ذلك عدم العدوان علىأموال اليتامى وغيرهم.
سادساً : وجوب الوفاء بالعهد والميثاق سواء كان عهداً مع الله تعالى أو عهداً مع خلقه، وكلما كان هذا العهد أوثق كان الوفاء به أعظم .
سابعاً : وجوب العدل - وهذا من أعظم الأصول - في الأقوال والأعمال، ووجوب الوزن بالقسط {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ }.
ثامناً : تحريم الكبر وتحريم الأخلاق المذمومة كلها . والأخلاق المذمومة تعرف بالشريعة، وتعرف بالعقل، وتعرف بالفطرة.
تاسعاً : وجوب اتباع صراط الله المستقيم وتجنب السبل المضلة {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماًفَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }.
عاشراً : ترك قفو الإنسان ما ليس له به علم ، واستشعاره المسؤولية عن السمع والبصر والفؤاد واللسان {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.
يقول ابن تيمية : إنالرسل كلهم - عليهم الصلاة والسلام - متفقون في الدين الجامع في الأمور الاعتقادية والأمور العلمية كالإيمان بالله تعالى والملائكة والكتاب والنبيين ... إلى غير ذلك وكذلك الأصول العملية كالأعمال المذكورة في سورة الأنعام ؛ فهذا من الدين الجامعالذي اتفق عليه الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام.
إن بناءَ الوحدة الأُخَويَّة الإيمانية بين المسلمين بعامة، والدعاة وطلبة العلم بخاصة على هذه العِصَم الكبار من أصول الشريعة ومحكمات الدين ؛ ضمانٌ لديمومتها واستمرارها وحماية لها من التصدع والانشقاق والانهيار. لأن هذه المسائل أصول وقواعد يُرَدُّ إليها غيرها ، كما أنها ثابتة مستقرة لا مجال للخلاف، أو التردد أو الشك أو الطعن فيها، ، ولذلك إذا كانت الوحدة مبنية على هذه الأصول الكبار العظيمة، ووفق الفهمالشرعي السليم فإنها تكون وحدةً راسخة ثابتة مستقرة لا تتغير بالمتغيرات؛ والمتفقون عليها بمأمن من الخلاف الذي يُحْدِث الفرقة والانشقاق، بينما الالتقاء على غير هذه الأسس أو عليها، ولكن مضافاً إليها شروط وفروع وتفاصيل واجتهادات ومفردات أخرى يجعلها عرضةً للتشقق كلما تنوعت الاجتهادات .
* الاجتماع ووحدة الصف لا يكون إلا على قبول الاختلاف السائغ وقبول الاجتهاد المعتبر : فقد اختلف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حالات متعددة والوحي يتنـزل عليهم صباح مساء.
ففي قصة موسى عليه الصلاة والسلام لما ذهب إلى ربه وترك أخاه هارون مع قومه ؛ قاللـه {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَالْمُفْسِدِينَ }. فعبد بنو إسرائيل من بعد موسى العجل{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُخُوَارٌ }، فنهاهم هارون عليه الصلاة والسلام عن عبادة العجل ، وأمرهم باتباع موسى عليه الصلاة والسلام .فلما جاء موسى عليه الصلاة والسلام ورأى ما رأى غضب {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَوَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } وعاتبه على ذلك {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي }، فكان موسى يعتب على هارون، ويطالبه بموقف آخر مختلف غير الذي فعل . ولكن هارون فآثر ألاّ يفرق بني إسرائيل ، وأن يبقى معهم حتى يعود ويرى فيهم رأيه وأمره؛ {يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}. ولذا قال قتادة عند هذه الآية: قد كره الصالحون الفرقة قبلكم.
فهارون -عليه الصلاة والسلام- كان حريصاً على بقائهم واجتماعهم حتى يأتي موسى -عليه الصلاة والسلام- فيعالج الأمر بما يراه، مع أنه بذل لهم النصيحة والوسع ، فهذا نموذج للاختلاف في معالجة بعض المواقف الطارئة أو المستجدة ، حتى بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ومن هذا الباب قصة موسى والخضر، التي حكاها الله تعالى في كتابه في سورة الكهف وقد اعترض موسى على الخضر ثلاثـاً فقال {أخرقتها لتغرق أهلها} {أقتلت نفساً زكية بغير نفس }، {لو شئت لاتخذت عليه أجرا} وبيَّن له الخضر بعدُ سرَّ ما رآه ، محتجاً بالوحي {وما فعلته عن أمري}.
وهذا درس عظيم في فقه الصحبة والتعامل مع الخلاف والتراجع ، ودرس رديف في الصبر وطول النَّفَس ؛ لأن كثيرًا من الناس لا يصبر على ما لم يُحِطْ به خُبْرا.
وكذلك قصة احتجاج آدم وموسى، وهي في البخاري (6614) ومسلم (2652) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"احتج آدم وموسىفقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ، قال له آدم: يا موسى! اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده, أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فحج آدمُ موسى, فحج آدمُ موسى" ثلاثاً".
لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :"ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟" قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومُكوأهلُك، استَبْقِهِمْ، واستأْنِ بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، قال: وقال عمر: يارسول الله، أخرجوك وكذَّبوك، قَرِّبهم فاضرب أعناقهم. قال: وقال عبد الله بنرواحة:يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم أَضْرِم عليهم ناراً.قال: فقال العباس: قَطَعْتَ رَحِمَك. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرُدَّ عليهم شيئاً، قال: فقال ناسٌ: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر،وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن الله لَيُلِيْنُ قلوب رجالٍ فيه، حتى تكون أَلْيَن من اللبن، وإنالله ليشُدُّ قلوب رجال فيه، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مَثَلَك يا أبا بكركَمَثَل إبراهيم عليه السلام ، قال {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ومَثَلُك يا أبا بكر كَمَثَل عيسى، قال {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنكأنت العزيز الحكيم }. وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال {ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} وإن مثلك يا عمر كمثل موسى، قال {ربِّ اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}..." الحديث رواه الترمذي وأحمد . فالخلاف أمرٌ جبل الله تعالى عليه العباد .
ولهذا الخلاف نظائر كثيرة جداً ،كاختلافهم في صلاة العصر في بني قريظة وهو معروف، واختلافهم في تولية بعض الأمراء كقصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في سورة الحجرات ، واختلافهم فيما لا يحصى من المسائل الفقهيةفي العبادات، والبيوع، والأنكحة، وغيرها.
وهذا كله مما لا حيلة في دفعه ، فهو أمر واقع لا مفرَّ منه؛ لأنه مترتب على طريقة تفكير الناس وتكوينهم وطبيعتهم وما جَبَلَهُم الله تعالى عليه، وأيضاً على علمهم ومدى ما وصلوا إليه من العلم كتصحيح نصٍ أو تضعيفه ، أو فهمه على وجهه أو على وجه آخر, أو ما أشبه ذلك من الاعتبارات .
والمعاندة لهذا الاختلاف مما لا مصلحة فيه؛ لأنها معاندة للفطرة,ومعاندة للجبلة والطبيعة التي فطر الله الناس عليها، فلم يبق إلا تسويغه وقبوله وفق ضابط أصلي وهو ألاَّ يقع هذا الخلاف في الأصول وفي الثوابت وفي المحكمات التي أجمع عليها علماء السلف رحمهم الله.
لا يكون الخلاف مقبولاً إلا إذا كان في الفروع وليس في الأصول، فالسلف متفقون –مثلاً-على أن الصلاة ركن من أركان الإسلام, وأن من جحد وجوبها فهو كافر؛ لكنهم مختلفون فيصفة الصلاة وتفاصيلها، وفي بعض شروطها، وفي بعض واجباتها، وفي حكم تاركها؛ فلا يجوز أن تكون كل نقطة من هذه النقاط سبباً للالتقاء ، بحيث يفضي الخلاف فيها يفضي إلى فرقة وتنازع وتحزب واتهام.
وكذلك نجد أن السلف متفقون على ربانية القرآن الكريم وأنه من عند الله سبحانه وتعالى وأنه منـزل غير مخلوق ، ومتفقون على مرجعية القرآن ، ولكنهم قد يختلفون حول آية من آياته : هل هي محكمة أو منسوخة؟ وقد يختلفون في بعض الحروف والقراءات الواردة في القرآن الكريم.
والسلف متفقون على مرجعية السنة النبوية {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُفَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ولكنهم قد يختلفون في تصحيح حديث أو تضعيفه, أو الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وقد يختلفون في فهمبعض النصوص؛ ولهذا جرى الخُلْف بينهم حتى في بعض الأشياء الظاهرة التي قد يستغرب البعض كيف اختلفوا فيها .
فقد اختلفوا في الأذان, وهو يُردَّد كل يوم وليلة خمس مرات منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك اختلف النقل فيصفة الأذان، وفي صفة الإقامة، وفي القنوت، وفي الجهر بالبسملة، وفي مواقيت الصلاة ، وفي حروف القراءات، وفي أنواع التشهد، وفي صفة الحج وغيرها من أحكام الأنساك، وفيمقادير الزكاة، والأموال الزكوية وغير الزكوية.
واختلفوا من ذلك في شيء عظيم، كما هو معروف في مظانّه من كتب الفقه. ووجود هذا الاختلاف لا يعني أن الإنسان ينتقيحسب ما يشتهي، بل يدع هذا لطلبة العلم الذين يرجحون وفق ضوابط وقواعد مقررة معتبرة.
ويكون الخلاف مقبولاً إذا كان في الوسائل لا في المقاصد, فالمقاصد شرع متفق عليه كما ذكرنا , مما هو في حفظ الضروريات الخمس, والدعوة إلى الله تعالى من المقاصد الشرعية المتفق عليها{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }. { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِعَلَى بَصِيرَةٍ }.
لكن وسائل الدعوة تختلف من زمان إلى زمان، ومن بلد إلىبلد؛ لأن الأصل في هذه الوسائل الإباحة, وقد يجدُّ للناس وسائل جديدة, وتنتقل بعضالوسائل من الإباحة إلى الوجوب أحياناً لعارض يجعل الدعوة والتبليغ لا يتحقق إلابواسطتها؛ فنجد أن الاختلاف في وسائل الإعلام اليوم، أو وسائل الاتصال من الاختلافالسائغ الذي لا يوجب الاجتهاد فيه نوعاً من المغاضبة ولا التفرق, بل يجب أن ندرك أنالهدف والمقصد هو نشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، وإيصالها إلى الناس وإلى المحتاجين إليها وإلى من يجهلونها، ومخاطبة شرائح عريضة بمثل هذا الأمر دون حجر، أوتثريب، أو تشغيب.
والاختلاف مقبول إذا كان اختلاف تنوع . كفروض الكفايات والدعوة إلى الله وتبليغ الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَإِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِوَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }. أي: أمة من مجموعكم ، فينبري لهذاالعمل طائفة من الناس, وينبري آخرون لفروض أخرى. والجهاد أيضاً هو من الفروض التي ينبري لها أقوام سخرهم الله عز وجل واستعملهم في ذلك ممنيجودون بأرواحهم إذا ضن الناس وأحجموا ، وهناك العلم والتعلم يقوم به طوائف من العلماء والمتفقهين وطلبة العلم ، ويتفرغ آخرون لأمور أخرى .وهكذا ... .
بل إن الذين يقومون على معاش الناس، وعلى مصالحهم وصحتهم وعلاجهم، وسفرهم وإقامتهم وحمايتهم، كل هؤلاء يقومون بفروض كفايات تحتاجها الأمة, ولا بد لها منها سواء عرفواهذا أم لم يعرفوه، احتسبوا فيه أم لم يحتسبوا إلا أنهم في الجملة يقومون بأشياء منفروض الكفايات .
وثمة أمر هام وهو : أنه لا ينبغي لمن فتح الله تعالى له باب خير أن يزدري ما لدى الآخرين ، لأن هذا يدخل في قول الله تعالى{وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِه }، فالشريعة والملة لا يستطيع أن يحيط بها فرد واحد، وإنما لابد فيها للأمة كلها، فيقوم أقوام بجانب، ويقوم آخرون بجانب، ونسيان حظ مما ذكرنا به هو من أسباب العداوة والبغضاء.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله : ( فأخبر الله تعالى أن نسيانهم -يعني أهل الكتاب- حظاً مما ذُكِّروا به ، وهو تركُ العمل ببعض ما أمروا به ، كان سبباً لإغراء العداوة والبغضاء بينهم, وهذا هو الواقع في أهل ملتنا ، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها وكثير من فروعه، ومثلما نجده بين العلماء والعباد ممن يغلب عليهم الموسوية، أو العيسوية -يعني: التشبه باليهود، أو التشبه بالنصارى- حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة ليست الأخرى على شيء ) . ثم قال : ( كما نجد المتفقهالمتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهماينفي طريقة الآخر, ويدعي أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده منأهل الدين- أي: إما يدعي هذا بقوله أو بفعله- فتقع بينهما العداوة والبغضاء، وذلكأن الله سبحانه وتعالى أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن, وكلا الطهارتين منالدين الذي أمر الله به وأوجبه... فنجد كثيراً من المتفقهة والمتعبدة إنما همهطهارة البدن فقط ويزيد على المشروع اهتماماً وعملاً ويترك من طهارة القلب ما أمر بهإيجاباً أو استحباباً، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك- يعني: طهارة البدن- ونجدكثيراً من المتصوفة والمتفقرة -أي : الفقراء- إنما همته طهارة القلب فقط حتى يزيدفيها على المشروع اهتماماً وعملاً، ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجاباً أو استحباباً, فالأولون -الذين هم المتفقهة- يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس, واجتناب ما لا يشرع اجتنابه, مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكبر والغل لإخوانهم -ولا يقصد التعميم وإنما طائفة من الناس- وفيذلك مشابهة بينة لليهود ، والآخرون -يعني: المتصوفة- يخرجون إلى الغفلة المذمومة؛فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر الذي يجب اتقاؤه، يجعلون ذلك من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها ، ثم مع هذا الجهلوالغفلة قد لا يجتنبون النجاسات ، ولا يقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى، وتقعالعداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به، والبغي الذي هو مجاوزة الحد إما تفريطاً وتضييعاً للحق، أو عدواناً وفعلاً للظلم, والبغي تارةً يكون من بعضهم علىبعض، وتارةً يكون في حقوق الله –تعالى- وهما متلازمان، ولهذا قال الله تعالى { بَغْياً بَيْنَهُمْ } ، فإن كل طائفة بَغَتْ على الأخرى فلم تعرف حقها الذي بأيديها، ولم تكُفَّ عن العدوان عليها... فظهر أن سبب الاجتماعوالألفة جمعُ الدين ، والعمل به كله ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، كما أمر به باطناً وظاهراً.وسبب الفرقة: ترك حظٍّ مما أُمِر العبد به ، والبغي بينهم.
ونتيجة الجماعة: رحمة الله, ورضوانه, وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة,وبياض الوجوه.ونتيجة الفرقة: عذاب الله, ولعنته, وسواد الوجوه, وبراءة الرسولمنهم" انتهى كلامه رحمه الله.
قسمة ثلاثية
هناك قسمة ثلاثية موجودة في كثير من الأشياء : أعلى وأدنى ووسط .
يقع هذا في المال ، هذا غني وذاك فقير وهذا وسط ز وغالب الناس يقعون في منطقة الوسط . مثلاُ هناك الأيّدُ الشديد القوة ، وهناك الضعيف، وهناك الوسط بينهم، وفي العلم ، هناك العالم المتبحر، وهناك الجاهل المركب، وهناك الوسط وهم غالب الناس،ويقع هذا في الدين وفي الصدق وفي الأخلاق وفي البر وغيرها .
ففي كل الأشياء أوجلّها هناك قسمة ثلاثية تقريبية يمكن أن يقسَّم الناس أو يصنفوا إليها، فمن الناس من يستوليعلى الذروة العليا، ويكون في أسنى المقامات، ومنهم من يكون في أحط المنازل وأقلها، ومنهم الوسط وهم الغالب الكثير ، والسواد الأعظم وقد يكون ذلك في أيضاً الاعتدال ، فهناك من يكون في غاية الاعتدال وهناك من هو ضعيف الاعتدال، وهناك من هو متوسط في ذلك .
فالوحدة والاجتماع تقضي بأن يتكامل الصف الإسلامي ويتشكل في ثلاث دوائر عريضة ؟.
الدائرة الأولى : دائرة الوسط ، وهم جمهور المصلحين والدعاة والعامة ، الذين لديهم قدر من الاعتدال وقدر من التوسط وإن كانوا يتفاوتون فيما بينهم ، فهم ليسوا على قلب رجل واحد، لكن يحكمهم هذا الإطار العام .
الدائرة الثانية : الدائرة التي تأخذ بالقوة والشدة وهيدائرة تنبري للمواقف الصعبة وتتصدى لها يتناسب هذا مع تكوينها الشخصي وبنائهاالنفسي ويحقق في الوقت ذاته القيام بجوانب من الشريعة قد يفوت غيرهم القيام بها لكنشريطة ألاّ تشتمل هذه القوة والشدة على خروج عن الحد الشرعي عن المحكمات التيذكرناها إلى نوع من الغلو في الدين.
ونجد أن الحاجة إلى هذه الدائرة ضرورية؛ لأن هناك قطاعاً من الناس لا يصلح لهم ولا يتجاوب مع تكوينهم وعقولهم إلا هذا، ولأنه يوجد في طوائف من أعداء الدين من الغلاة والمبالغين في الشدة والقسوة من لا بد أن يواجهوا بمثلهم، وكما يقال :
الشرُّ إن تلْقَه بالــــــــخير ضِقتَ به
ذرعاً وإن تلْقَه بالــــــــــشرِ ينحسمِ
والناسُ إن تركوا البرهان واعتسفوا
فالحرب أجدى على الدنيا من السَلَمِ
الدائرة الثالثة : هي التي يغلب عليها اللين والتسامح , وربماشيئاً من التساهل، لكن شريطة ألاّ يتحول هذا إلى تشكيك في الثوابت ، ولا تمييع للأصول ، وو تضييع للمحكمات المتفق عليها .
ويتكامل عمل هذه الدوائر الثلاث إذا التزمت بشروط أهمها:
أولاًَ:عدم نسيان ما عند الآخرين، بحيث لا تفرض دائرة من هذه الدوائر نظامها وبرنامجها على الآخرين ، فترى أن ما تقوم به أو ما تتجمع عليه هو المنهج والحق الذي يجب على الآخرين اتباعه والانسياق معهاعليه , بل تكتفي باعتقاد أن هذا هو المناسب لها ولتكوينها ومواهبها وطاقاتها ، وغيرها على خير أيضاً ، فيكون الشعار أن كلاً منا على ثغر من ثغور الإسلام, فاللهَ اللهَ أن يؤتىالإسلام من قِبله، ولا يكون الشعار أن هؤلاء ليسوا على شيء , وأولئك يقولون : هؤلاءليسوا على شيء , كما قال أهل الكتاب من قبلنا .
ويكون لسان الحال : ما أنا عليه صورة من صور الحق ، و ما أنت عليه هو صورة من صور الحق، ولكن الحق ليس منحصراً فيما عندي فقط أو فيما عندك فقط ، بل الحق أوسع من ذلك .
ثانياً: ويشترط التزام كل طائفة بمحكمات الشريعة وأصول الإسلام والمنهج الصحيح، فلا يتحول الأمر إلىفوضى أو تسيب أو غلو مذموم أو تضييع وتمييع للدين وأصوله ومحكماته ، أو حتى ادعاءالإنسان للوسطية في غير مصداقية . ومما يشهد لما قلنا ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرةرضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الدَّين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه ، فسدِّدوا وقارِبوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلْجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا".
وينبغي أن تكون الردود فيما بينهم على أضيق نطاق ممكن ، وأن يكون التحاور بالحسنى ، وتقديم حسن الظن ، وحفظ الحقوق ومعرفة الثغرة التي هم عليها ، والجهد والجهاد الذي يقومون به ، وعدم تشاغلهم ببعض .
ومن اعتقد حقاً فليبينه ، ولكن لا يلزم أن يكون هذا البيان من خلال التقاطع مع الآخرين , أو الرد على زيد أو نقض ما جاء به عبيد .
ولا بد من تربية النفس والأجيال على تقبل الخلاف السائغ والاجتهاد المعتبر ، وأن الخلاف لا يفسد للود قضية ، وأنتنوع آراء العلماء لا يعنيالوقوع في الخلاف المذموم بالضرورة ، ولا يعني انشطار الصف ، وإنما المشكلة هي فيما زاد على الخلاف من تحول الخلاف إلى بغي وعدوان وفجورفي الخصومة.
والحذر من التعصب على الأشخاص ، وجعلهم الفيصل في الولاء والبراء . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ومن نصب شخصاً كائناً من كان، فوالىوعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً . وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قومٍ من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ؛ فليس له أنيجعل قدوته وأصحابه هم المعيار فيوالي من وافقهم، ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسانأن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به فهذا زاجر . وكمائن القلوب تظهر عندالمحن ... وليس لأحدٍ أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها؛ لكونها قول أصحابه, ولا يناجز عليها لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله , أو مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم .
ولا ينبغي للداعي أن يقدم فيما استدلوا به إلا القرآن الكريم أولاً؛ فإنهنور وهدى، ثم يجعل كلام إمام الأئمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم كلام الأئمة .ولا يخلو الداعية من أمرين :
الأول: أن يكون مجتهداً؛ فالمجتهد ينظر في تصانيفالمتقدمين من القرون الثلاثة , ثم يرجِّح ما ينبغي ترجيحه .
الثاني: المقلِّديقلد السلف أيضاً؛ إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها، إذا تبين هذا؛ فنقول كماأمرنا ربنا { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَإِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَاأُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُبَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }. ونأمر بما أمرنابه, وننهى عما نهانا عنه في نص كتابه, أو على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه }. فمبنى أحكام هذا الدين على ثلاثة أقسام : الكتاب، والسنة، والإجماع . انتهى كلامه رحمه الله .
ومن النصائح المهمة : أنه يجب البحث عن نقاطالاتفاق , وليس عن نقاط الخلاف؛ لأن الذي يدخل بروح التفحص والاختبار سيجد إما فيعمومية اللفظ أو ملابسة الموقف أو ظروف الاجتهاد ما لا يروق له ، وأمور الناس ينبغي أن تؤخذ بالستر والعافية وحسن الظن.
ومن النصائح أنه لا بد أن يكون اجتماع الكلمة والولاء بينالمؤمنين عامة مبني على أصل الإيمان , وأصل الإسلام , فكل من ثبت له الإسلاموالإيمان ثبت له أصل الإخاء، والإيمان يزيد وينقص، وكذلك الإسلام يزيد وينقص , فلكلمؤمن ومسلم من الحقوق العامة القدر الذي جاءت به النصوص الشرعية , ويكمل الحق بكمالالإيمان وكمال الإسلام . أما ما تراه خطأً يحتاج إلى تصحيح وتصويب؛ فإن الأخوّة لا تمنع التصحيح والتصويب والاستدراك المشفق الرحيم الناصح , والتصويب والتصحيحوالاستدراك لا يمنع من القيام بالحقوق الأخرى , وقد يجتمع في المرء الواحد إيمانونفاق , ويجتمع له ولاء وبراء، ولذلك يضرب العلماء ـ مثلاً ـ بالفقير السارق تقطع يده لسرقته , ويعطى من الزكاة لفقره، ولا ينبغي إقامة أحد الأمرين أي ( الولاء، والبراء ) للمؤمن بتقويض الآخر , بل يجمع بينهما كما جمع بينهما ربنا قال الله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُبَعْض } فهذا أصّل وأساس لقاعدة الإخاء الديني بين المؤمنين، فكل من صح لهوصف الإيمان تم له وصف الأخوة، وفي الآية الأخرى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، ثم تأتي قاعدة النصيحة والتصحيح بقوله ســبحانه وتعالى { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَبِاللَّهِ }. فالإيمان لا يمنع النصيحة والإصلاح, والنصيحة والإصلاحلا تمنع أداء حقوق الإخاء الديني بين المؤمنين .
ومن النصائح المهمة : أن الإصلاح مطلوب ، لكنبالرحمة والشفقة، وبقلب محب ناصح يتحرى الخير، ويؤثر حسن الظن، ويقدم العذر، ويحفظ حقوق الأخوّة , ويجب الحذر من حظوظ النفس الخفية التي قد تحدث فرحاً بالغلط الذي قديقع من أخيك .
ومن النصائح : لا بد من معرفة خطورة الاشتغال بالتصنيف , وهو داء أمم قبلنا، وداءكثير من الجماعات ، فإذا رأيت من شخصٍ ما لا يروق لك أو ما لا يعجبك سارعت بتصنيفهووضعه ضمن جماعة معينة أو قائمة من القوائم المعدة سلفاً في عقلك ، وكأنك فرغت منه وحاولت أن تضع حاجزاً بينك وبينه أن تتعاون معه , وبينه وبين الآخرين أن يستفيدوا منه بأن تقول : هذا من المجموعةالفلانية، أو من الطائفة الفلانية ، أو من المدرسة العلانية ، وهذا يكون بغير علمأحياناً ، ويكون ببغي أحياناً كثيرة، ويتم دون معرفة ما عند هذا الإنسان على سبيلالتفصيل , ودون أن معرفة من ينسبون إليه أيضاً , والحكم في مثل هذا يتطلب تحقيق ثلاث صفات :
أولاً : أن تكون من أهل العلم والرأي والبصيرة والإنصاف .
ثانياً : أن تكون عالماً بما عليه هذا الشخص من منهج ومعتقدات لتتمكن من الحكم فالحكم على الشيء فرع عن تصوره .
ثالثاً : أن تكون عارفاً بالمدرسة أو الجهة أو الجماعة التي نسبته إليها , وهذه الأمور مما تنقطع دونها أعناق المطي ، لكنالكثيرين من أسهل الأمور عليهم إذا رأوا شخصاً وافق أو ظنوا أنه وافق جماعة أو فئة أو طائفة في جزئية معينة صنفوه أنه منهم ثم فرغوا منه وتركوه .
* الوحدة والاجتماع من أعظم أصول الدين :